“المحتال الذي سرق 25 مليون دولار من ماكدونالدز”.

في التسعينات، أطلقت مطاعم ماكدونالدز حملة تسويقية ضخمة في أمريكا تحت اسم لعبة مونوبولي. كانت الفكرة أن الزبائن يحصلون على بطاقة مع كل وجبة، وهذه البطاقة قد تحتوي على جائزة تتراوح بين إلكترونيات، سيارات، قوارب، أو مبالغ نقدية من 1000 دولار إلى مليون دولار، وكانت جائزة المليون دولار هي الأكثر رواجًا. أدت هذه الحملة إلى ارتفاع مبيعات ماكدونالدز بشكل كبير، مما دفعهم لتكرارها عدة مرات في السنة.

صدمة الاكتشاف وبداية التحقيق: في عام 2001، تلقى مكتب جاكسونفيل التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) في فلوريدا، والمتخصص في قضايا الفساد والاحتيال، اتصالًا من مخبر مجهول الهوية. كشف المخبر أن لعبة مونوبولي في ماكدونالدز قد تم التلاعب بها، وقدم أسماء ثلاثة فائزين بجائزة المليون دولار على مر السنين، مشيرًا إلى أنهم أقارب رغم اختلاف أسمائهم العائلية، وأن هناك “العم جيري” هو العقل المدبر وراء الاحتيال. بدأ محققو الـ FBI بالبحث، واكتشفوا صدمة كبرى: عدد كبير من الفائزين بالجائزة الكبرى كانوا أقارب، حتى لو بصلات بعيدة. وتأكدوا أنه لم يكن هناك فائز شرعي واحد بجائزة المليون دولار في الفترة من 1989 إلى 2001، مما يعني أن عملية الاحتيال استمرت لمدة 12 عامًا وسرقت أكثر من 25 مليون دولار من أموال الجوائز.

تعاون الـ FBI مع ماكدونالدز: كان الـ FBI في حيرة لعدم وجود معلومات كافية لديهم، فقرروا التواصل مع إدارة ماكدونالدز، بالرغم من خوفهم من تورط أحد المدراء. اتصلوا بمدير الأمن في ماكدونالدز وطلبوا منه القدوم إلى مكتبهم مع شخصين أو ثلاثة آخرين دون إخبار أحد. في الاجتماع، كشف الـ FBI للإداريين عن اختراق اللعبة وأن جميع الفائزين بالجوائز الكبرى كانوا محتالين وأقارب. رغم صدمتهم، أراد إداريو ماكدونالدز إيقاف اللعبة فورًا، لكن الـ FBI أقنعهم بإطلاق حملة جديدة لمراقبة المحتالين وكشف آليتهم. وافقت ماكدونالدز في النهاية بعد اجتماع مع مجلس إدارتها.

الكشف عن “سايمون ماركتنج” وثغرة الأمن: خلال الاجتماعات، كشفت ماكدونالدز أن شركة تسويق خارجية تدعى “سايمون ماركتنج” كانت مسؤولة عن إدارة حملاتهم التسويقية، بما في ذلك طباعة وتوزيع بطاقات اللعبة وضمان العشوائية. أدرك الـ FBI أن الثغرة الأمنية كانت في هذه الشركة. كانت شركة سايمون ماركتنج شريكًا مهمًا لماكدونالدز، وحملاتهم التسويقية كانت ناجحة جدًا، حيث كانت الجوائز تصل قيمتها الإجمالية إلى 50 مليون دولار، وكانت مبيعات ماكدونالدز ترتفع بنسبة تصل إلى 40% مع كل حملة.

تتبع الفائزين المزيفين: أطلقت ماكدونالدز وسايمون ماركتنج الحملة الجديدة بالتعاون مع الـ FBI. بعد فترة وجيزة، اتصل شخص يدعى مايكل هوفر معلنًا فوزه ببطاقة المليون دولار. بدأ الـ FBI بالتنصت على مكالماته بعد الحصول على إذن قضائي. لم يحصلوا على شيء في البداية، فابتكر محققو الـ FBI فكرة إجراء مقابلة تسويقية مزيفة مع هوفر بمساعدة رئيسة قسم التسويق في ماكدونالدز. خلال المقابلة، روى مايكل هوفر قصة ملفقة عن عثوره على البطاقة، مدعيًا أنه فقد مجلة في البحر واشترى واحدة جديدة ليجد البطاقة بداخلها. بعد مغادرة عملاء الـ FBI، اتصل هوفر بشخص يدعى “إيه جي” ليخبره بأنهم صدقوا قصته بالكامل، دون أن يعلم أن مكالمته كانت مسجلة.

“العم جيري” والعقل المدبر: تتبع الـ FBI شخص “إيه جي”، وعرفوا أنه إيه جي جومب، تاجر مخدرات سابق قضى 12 عامًا في السجن. كشفت مكالمات إيه جي جومب أنه كان يوزع بطاقات رابحة مختلفة، ليس فقط المليون دولار، وأنه كان وسيطًا، لكنه ليس العقل المدبر. كان إيه جي يذكر “العم جيري” باستمرار في مكالماته. بعد البحث في سجلات المكالمات للفائزين السابقين، اكتشف الـ FBI رقمًا مشتركًا يتصلون به جميعًا، وتبين أنه يعود لشخص يدعى جيروم جاكوبسون، المعروف باسم “العم جيري”. كانت الصدمة الكبرى أن العم جيري كان مدير الأمن في شركة سايمون ماركتنج نفسها، الشركة المسؤولة عن اللعبة. كان العم جيري شرطيًا سابقًا، مما أهله لهذا المنصب.

العم جيري يكشف أسرار الاحتيال: لم يداهم الـ FBI العم جيري فورًا، بل سعوا لمعرفة كيف كان يسرق البطاقات. تبين أن إجراءات الأمن في مطبعة “الإخوان ديتل” المتعاقدة مع سايمون ماركتنج كانت شديدة التعقيد. كانت هناك حراسة 24 ساعة، بطاقات دخول، كاميرات مراقبة، وبوابات حراسة إضافية لمناطق طباعة البطاقات الهامة. عند طباعة البطاقات المهمة، كان ممثلون من سايمون ماركتنج (من ضمنهم العم جيري كمدير أمن) حاضرين للإشراف. توضع البطاقات في حقيبة يد تقيد بيد العم جيري بالأصفاد، وتحتوي الحقيبة على قفل بكود سري، نصفه لدى العم جيري والنصف الآخر لدى محاسبة مستقلة ترافقه دائمًا. خلال رحلات الطيران لنقل البطاقات إلى مصانع تغليف الوجبات، كان العم جيري يستغل لحظات وجوده في الحمّام بمفرده. لقد عرف النصف الآخر من الكود السري الخاص بالمحاسبة، على الأغلب من خلال الملاحظة. كان يفتح الحقيبة، ويخرج الظرف المختوم، ثم يفتح الختم باستخدام سكين، ويأخذ البطاقات الرابحة، ويستبدلها ببطاقات عادية تحتوي على جوائز بسيطة أو لا تحتوي على جوائز. كان لديه نفس نوع الختم الخاص بالظرف، ويدعي أنه حصل عليه بالخطأ في طرد، ليقوم بإعادة إغلاق الظرف بختم جديد دون أن يلاحظ أحد. ثم يعيد الحقيبة ويكمل الرحلة وكأن شيئًا لم يكن.

شبكة العم جيري من الوسطاء: لم تكن للعم جيري شبكة معارف كبيرة في البداية، فكان بحاجة لوسطاء لتوزيع البطاقات على نطاق أوسع وضمان عدم وجود صلات قرابة واضحة بين الفائزين.

  • جيري كولومبو: تعرف العم جيري على جيري كولومبو بالصدفة في مطار. كان جيري كولومبو ينتمي إلى عائلة كولومبو، وهي إحدى عائلات المافيا الإيطالية الشهيرة في أمريكا، وكانت لديه شبكة معارف واسعة. اتفق العم جيري على بيع بطاقات المليون دولار لجيري كولومبو مقابل 50,000 دولار للبطاقة الواحدة، حيث أن جائزة المليون كانت تدفع على مدى 20 عامًا بواقع 50,000 دولار سنويًا، بالإضافة إلى الضرائب. كان جيري كولومبو بدوره يأخذ 50% من قيمة الجائزة لمدة معينة (مثل 5 سنوات لجائزة المليون) من الأشخاص الذين يعطيهم البطاقات.
    • جلوريا براون: بناءً على اقتراح زوجته روبن، اختار جيري كولومبو جلوريا براون، وهي امرأة سمراء عزباء لديها ابن، لتبدو كفائزة متنوعة. طلب جيري من جلوريا 50,000 دولار مقدمًا، مما اضطرها لأخذ قرض ورهن منزلها. بالرغم من فوزها بالمليون، كانت جلوريا تخسر ماديًا بعد خصم الضرائب وحصة جيري كولومبو، حيث لم يتبق لها سوى 10,000 دولار سنويًا، ولم تكن قادرة على سداد قرضها بسهولة.
    • لي كاسانو: أقام جيري كولومبو علاقة سرية مع موظفة طيران تدعى لي كاسانو. أعطاها بطاقة رابحة بقيمة 100,000 دولار (جائزة فورية)، لكنه استولى على المبلغ بالكامل بعد استلامها له، تاركًا لي مديونة بضرائب بقيمة 30,000 دولار.
    • وفاة جيري كولومبو في حادث سيارة عام 1998.
  • إيه جي جومب: بعد وفاة جيري كولومبو، أصبح إيه جي جومب أحد أكبر الوسطاء الجدد للعم جيري.
  • دوايت بيكر: مقاول تعرف على العم جيري، وعرض عليه الأخير بطاقة المليون دولار مقابل 100,000 دولار مقدمًا. لم يكن لدى دوايت هذا المبلغ، فعرض الفرصة على ابنه بالتبني، جورج تشاندلر، وهو مستثمر ثري، تحت ذريعة أن شخصًا يمر بطلاق ويريد بيع البطاقة. فاز جورج تشاندلر، وأصبح دوايت بيكر وسيطًا للعم جيري أيضًا.

الاعتقالات والتداعيات: بعد جمع الأدلة الكافية، بدأت الاعتقالات في 21 أغسطس 2001. تم اعتقال حوالي ثمانية أشخاص، على رأسهم العم جيري، والوسطاء إيه جي جومب ودوايت بيكر. لم يتم اعتقال الفائزين في البداية، بل تم استجوابهم. سببت القضية ضجة إعلامية كبيرة، واعتذرت ماكدونالدز رسميًا، وأنهت عقدها مع شركة سايمون ماركتنج، التي انهارت بدورها. كما انهارت مطبعة الإخوان ديتل.

العقوبات والضحايا: اعترف العم جيري بكل تفاصيل الاحتيال، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات فقط بفضل تعاونه، بالإضافة إلى دفع 12 مليون دولار على أقساط ميسرة (370 دولارًا شهريًا)، مما يعني أنه على الأرجح لن يدفع المبلغ بالكامل. بينما معظم الفائزين والوسطاء، الذين لم يكونوا على علم بكيفية سرقة البطاقات، لم يسجنوا، بل وضعوا تحت الإقامة الجبرية وأمروا بإرجاع الأموال التي حصلوا عليها.

  • تضررت سمعة جورج تشاندلر وأعماله التجارية بشكل كبير، على الرغم من تبرئته لاحقًا في عام 2004.
  • جلوريا براون على سبيل المثال، التي كانت تعاني بسبب القرض الذي أخذته، أصبحت مطالبة أيضًا بسداد مبالغ إضافية لتعويض ما أخذته من الجائزة.
  • رأى كثيرون أن العم جيري لم يتلق العقاب المناسب، خاصة وأنه دمر حياة مئات الأشخاص الذين عملوا في شركتي سايمون ماركتنج والإخوان ديتل.

لإصلاح سمعتها، أعلنت ماكدونالدز أنها ستوزع 25 مليون دولار، وهو المبلغ الذي سُرق تقريبًا، على زبائن عشوائيين.

الكشف عن المخبر الحقيقي: بقيت هوية المخبر الذي بدأ التحقيق لغزًا. اعتقدت لي كاسانو، عشيقة جيري كولومبو، أنها هي المخبر بعد أن أبلغت دائرة الضرائب الأمريكية عن الموقف الذي تركها فيه جيري مديونة بالضرائب. ومع ذلك، الـ FBI لم يكشف عن هوية المخبر. لاحقًا، كشف فرانك كولومبو، شقيق جيري كولومبو، أن المخبر الحقيقي كانت والدتهما، ما كولومبو (أم جيري كولومبو). والسبب كان رغبتها في الحفاظ على حضانة حفيدها (ابن جيري كولومبو وزوجته روبن). فبعد وفاة جيري كولومبو، سرق منزل روبن ودخلت في قضايا احتيال ومخدرات وسجنت، وذهبت حضانة ابنها لجدته. وعندما كانت روبن على وشك الخروج من السجن، أبلغت الجدة الـ FBI لزيادة عقوبة روبن في السجن (التي كانت متورطة في مساعدة زوجها)، لضمان استمرار حضانة الابن لديها. والغريب أن العائلة بأكملها (الجدة، الأم روبن، والابن) قد تصالحوا ويعيشون بوئام الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top