تُعدّ قصة أوليج جورديفسكي واحدة من أغرب وأكثر قصص الجواسيس تأثيرًا في التاريخ، حيث لعب دورًا محوريًا في تجنب اندلاع حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في عام 1983.
البداية والخلفية الاستخباراتية:
ينحدر أوليج من عائلة تعمل في الاستخبارات؛ فوالده كان عميلاً في جهاز الـ”كي جي بي”. بدأت قصته في عام 1966 خلال ذروة الحرب الباردة، حين أُرسل إلى سفارة الاتحاد السوفيتي في كوبنهاجن، الدنمارك، تحت غطاء دبلوماسي. لكن مهمته الحقيقية كانت التجسس.
نظراً لأهمية الدنمارك الاستراتيجية كعضو مؤسس في حلف الناتو، كانت المخابرات السوفيتية تعتبرها موقعًا حساسًا. من جهة أخرى، كانت المخابرات الدنماركية تراقب أوليج منذ وصوله، تشتبه في كونه جاسوسًا، ولاحظت أنه يسرق هويات الموتى لإنشاء شبكة جواسيس جديدة. بدل القبض عليه، قرروا مراقبته ومحاولة تجنيده كعميل مزدوج – وهو أمر نادر وخطير جدًا.
تأثره بالغرب وتغير قناعاته:
أثناء سنواته في الدنمارك، بدأ أوليج يتأثر بنمط الحياة الغربي والمجتمع المنفتح، على النقيض من القيود التي عاشها في الاتحاد السوفيتي. نقطة التحول الكبرى في قناعاته جاءت بعد الغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968 لقمع المظاهرات، حيث عبّر عن استيائه من هذا التصرف لمقربين منه، في مكالمة ربما كانت مقصودة لجذب انتباه المخابرات.
عاد بعدها إلى موسكو ليعمل في مقر الـ”كي جي بي”، ثم أُرسل مجددًا إلى الدنمارك عام 1972، حيث تم ترشيحه للعمل كنائب لقائد العمليات الاستخباراتية.
تجنيده من قبل MI6:
المخابرات الدنماركية، لعدم قدرتها على التعامل مع عميل مزدوج بهذا الحجم، تواصلت مع المخابرات البريطانية (MI6) وسلمتهم ملف أوليج. بدأ البريطانيون بمراقبته، واقتربوا منه من خلال هواياته الرياضية. وبعد تردد بسبب خوفه من أن تكون فخًا من “كي جي بي”، وافق على التعاون، بشرط أن يكون بعيدًا عن أي دور للدنمارك، وأن يظل أمره سريًا للغاية.
اللافت أنه رفض تلقي أي أجر، مما جعله أحد أخطر أنواع الجواسيس – الجواسيس بدافع قناعات شخصية.
معلوماته الخطيرة:
بدأ بتسريب معلومات شديدة الحساسية للبريطانيين، منها ملف يحتوي على تفاصيل جميع الجواسيس السوفييت في الدول الاسكندنافية. بعد انتهاء مهمته في الدنمارك، عاد إلى موسكو عام 1978، وخلال تلك الفترة لم يتواصل معه MI6 حفاظًا على سلامته.
مهمته في لندن وتجنب كارثة نووية:
في عام 1982، نُقل إلى لندن في مهمة جديدة، وكانت فرصة ذهبية لـ MI6. هناك، قدّم معلومات هائلة عن تغلغل السوفييت في السياسة البريطانية، وكشف عن سياسيين ونقابيين لديهم ولاء للاتحاد السوفيتي، ما أدى إلى تحقيقات واعتقالات.
لمواصلة تغطيته أمام “كي جي بي”، كان يُزود بمعلومات منخفضة الأهمية يقدمها لهم، ما عزز ثقتهم به. بفضل “ولائه الظاهري”، رُقي إلى رتبة مقدم عام 1983، وتولى قيادة الاستخبارات السوفيتية في لندن، أي أنه أصبح مسؤولًا عن كل عمليات التجسس في بريطانيا.
في نفس العام، بلغت العلاقات بين أمريكا والاتحاد السوفيتي درجة خطيرة من التوتر. ظن الزعيم السوفيتي يوري أندروبوف أن أمريكا تستعد لهجوم نووي، وطلب من الكي جي بي مراقبة كل المؤشرات الممكنة على ذلك، مثل التبرع بالدم أو حركة الأنوار في المنشآت العسكرية.
وفي نوفمبر، أطلق حلف الناتو مناورات ضخمة تُحاكي حربًا نووية، ما فُسر من السوفييت كتحضير لهجوم فعلي. بدأوا بتحريك صواريخهم النووية وتجهيز القوات العسكرية.
أدرك أوليج خطورة الموقف، وكسر البروتوكول وتواصل مع MI6، ناقلًا إليهم حجم الاستعداد السوفيتي وأن الحرب قاب قوسين أو أدنى. سارعت MI6 لإبلاغ رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، التي أقنعت الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بتخفيف التصعيد وإنهاء المناورات.
كان لهذه المعلومات دور حاسم في نزع فتيل أخطر أزمة نووية بعد أزمة الصواريخ الكوبية.
الانكشاف والهروب المذهل:
أثار نشاط أوليج اهتمام الـCIA، الذين حاولوا تحديد هوية المصدر الذي نقل هذه المعلومات الحساسة. لكن عميلهم “ألدريش إيمز” كان في الواقع جاسوسًا للاتحاد السوفيتي، وسرب هوية أوليج إلى موسكو.
في مايو 1985، تلقى استدعاء مفاجئ للعودة إلى موسكو، فشك في الأمر، لكن قرر العودة. عند وصوله، خضع للتحقيق، واستخدموا معه “مصل الحقيقة”، لكنه لم يعترف بشيء. أُطلق سراحه، لكنه وُضع تحت الإقامة الجبرية والمراقبة، فأدرك أنه في خطر.
كان أوليج و MI6 قد أعدّا خطة طوارئ مسبقًا للهروب. أرسل إشارة مشفرة عبر مشهد تمثيلي في الشارع – جالسًا تحت عمود إنارة يحمل كيس تسوق بريطاني، وشاهد عميلًا بريطانيًا يمر أمامه وهو يأكل قطعة شوكولاتة “مارس”، إشارة إلى أن الخطة بدأت.
بعد أيام، استطاع التملص من مراقبيه في المترو، وسافر عبر عدة قطارات حتى وصل إلى الغابة قرب الحدود الفنلندية، حيث التقى بعملاء MI6 الذين أخفوه في صندوق السيارة.
رغم مرورهم بخمس نقاط تفتيش، تمكنوا من تهريبه بنجاح – في أول عملية من نوعها للمخابرات البريطانية.
الحياة بعد الهروب:
بعد هروبه، أصبح أوليج بطلًا في بريطانيا، وحصل على أوسمة تكريم. حكم عليه الاتحاد السوفيتي بالإعدام غيابيًا، وتم اعتقال زوجته وأطفاله واستجوابهم، قبل السماح لهم بالانضمام إليه بعد ست سنوات.
بدأ حياة جديدة في بريطانيا، وتزوج من امرأة أخرى. يُعتقد أنه لا يزال على قيد الحياة حتى اليوم، في مكان مجهول، ويُنظر إليه على أنه الرجل الذي أنقذ العالم من كارثة نووية محققة.